يحررها حمدي حمودي

يحررها حمدي حمودي

الأربعاء، 30 مايو 2018

غروبٌ أم شروقٌ...



شئتَ أم ابيتَ هناك أمورٌ لا تمرّ بسهولة، مهما حاولتَ، تبقى تجترّ داخلك بقاياها، تلك الأشياءُ او المواقفُ قد تذهبُ ولكن تجرّ ذيولاً طويلةً لفساتينها التي احتفلت وأعْرستْ في نفسك، غير ان الصّعب قد يمرّ ويتاح له أن يذوبَ أو يتسربَ ولكن الأصعب قد لا يجد نفس الفرصة الا بالقصِّ او البتر مثل جرح الصُّرة تماماً، أثرٌ يندملُ ولكن لا يزول.
يشقُّ عليّ نسيان تلك الأيام الصّعبة على رأس الثمانينات ونحن أطفال قلة، مع معلمينا الشبان الذين يعدون على رؤوس الأصابع، نتقاسم شَغَفَ العيش في تلك المباني الطّينية التي شرعنا في تلقى اولى دروسنا الابتدائية فيها ولبنات بعض جدرانها لم تجف بعد خضراء لينة مثلنا، في سباق محموم بين بناء الجدران وتأسيس انسان الغد، في تلك الأرض الجرداء "الحمادة"، بمدرستنا "تسعة يونيو" التي سميت على تاريخ فقدان قائد ثورتنا الشاب المثالي الذي رحل شهيدا مضرجا بدمائه وهو لا يزال في عشرينات العمر.
ذاكرتي ما تزال مبللة بتلك الصور لملابسنا الموحدة الضارب لونها الى السواد، في حين لا تختلف زميلاتنا عنّا فيها سوى بنقط بيضاء صغيرة كنجوم على الفستان، ولا يزال طعم الماء المالح المرّ في فمي الى اليوم، الذي يفقد الصابون رغوته ربما من فرط تركيز الاملاح فيه.
صارت الدروس الاولى مثل رؤيا السراب مشوشة في ذهني قليلا غير ان ملكة اللغة والكتابة الصحيحة والقراءة المتأنية قد شهد بها أغلب زملائي انهم لم يزدادوا في القراءة والكتابة والصرف الا النزر القليل حتى الدخول الى الجامعات.
التحدي فرض على شعبنا ككل، فكان مثل طير بط يفقس لاول مرة، مع فراخ دجاج، يتجه فراخ الدجاج الى النبش في الارض للبحث عن خشاشها، بينما تتجه الفطرة التي فطر عليها فرخ البط الى النهر كي يسبح في الماء.
كل لما قدر له نحن قسم لنا ان نعيش التحدي من أجل البقاء، وكان لزاما ان نتعلم كيف نسبح وكيف نغطس وأخيرا كيف نطير.
كانت اللعبة حقيقية كحلبات المصارعة بالسيوف حتى الموت، لقد اعطي المتآمرون أدوات القتل واسلحته الفتاكة
وأحاطوا بشعبنا وكان هو الوحيد الاعزل في تلك المجزرة.
كان الناجون من القتل هم الذين وصلوا الى ارض اللجوء بل الى جزيرة النجاة بتعبير أدق.
اليوم يبدو أن مشروع الغروب الذي اريد لطمس شمس الشعب الصحراوي تحول بالارادة والتخطيط لدولة العلم بغرسها بأيد مخلصة واعية في ثلة الاطفال الى شروق لصبح جديد، فؤلئك أطفال الامس هم آباء وأمهات لمئات الخرجين من الجامعات اليوم من كل بقاع العالم
ولم تعد مدرسة تسعة يونيو الا ذكرى في ذهن الآباء ورمز للتحدي، أما جزيرة النجاة فتحولت الى معقل المقاومة وقلعة النصر والدولة الصحراوية تنبت الآن في الارض المحررة لتثبت السيادة على الجزء المحرر بدماء الشهداء.
أما المتآمرون فكسرت ادواتهم الحادة ولم يعد الشعب الصحراوي بلا سلاح بل صار يعض وعضته تسيل الدم ويهابها الجميع غير ان المعركة لا تزال متواصلة رغم انسحاب البعض وتغير بعض اساليب وتكتيكات النزال

ذكرى 20 ماي طلقة الحرية...

من المنتظر أن تحتضن نواكشوط قمة إفريقية، هي الثانية للاتحاد الأفريقي خلال عام 2018، وذلك في الفترة ما بين 25 يونيو و02 يوليو 2018، تلك القمة التي سيكون رئيس الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية من الحضور البارزين فيها وكذا أول رئيس للشعب الصحراوي يصل الى نواكشوط حسب علمي ويستقبل بشكل رسمي رغم اعتراف الجمهورية الإسلامية الموريتانية بالجمهورية الصحراوية في ثمانينات القرن الماضي.
لا شك ان الحدث بالنسبة لنا كصحراويين رغم ان الدولة الصحراوية من مؤسسي الاتحاد الافريقي
سيكون له طعم ولون خاصين، خصوصا بعد فشل محاولات المملكة المغربية وحاميتها فرنسا والدويلات التي تعتبر حاملات ذيل الفستان الفرنسي في إفريقيا في عدة معارك ديبلوماسية متتالية، من بينها جلوس ملك الرباط نفسه متقاسما نفس الطاولة مع رئيسنا، وبحضور حكام الاتحاد الأوروبي والاتحاد الافريقي مجتمعين.
ان الحدث يعني لنا الكثير ونحن نعانق الشعب الموريتاني الشقيق، الذي كان يراد به ما أريد بشعبنا بحكم ان الشعب شعب واحد، وان كان في دولتين وسياسات التوسع التي ما فتئ النظام المخزني يلوح بها بين الفينة والأخرى في مغالطة للتاريخ والحاضر والمستقبل.
لقد تفاعلنا إيجابا دوما مع ما يتحقق لشعبنا في موريتاني في ان يكون كما كان شعبا عربيا اصيلا وافريقيا
اصيلا ومسلما اصيلا وان يلعب دوره كاملا ولا ينوب عنه غيره، كقطب للاسلام الوسط وحلقة وصل للثقافة العربية والافريقية لما له من عوامل تؤهله في الجغرافيا كأرض وكشعب متعدد العروق وغيره، وهو ما قام ويقوم به الشعب الموريتاني في احتضان القمة العربية السابقة التي كانت نصرا مؤزرا له وكنا نراه لأنفسنا كذلك، ورغم الاستهزاء والتنقيص الذي مارسه البعض فان القمة نجحت بها “موريتانيا اليوم”.
اننا نتحدث عن القمة الافريقية ونحن نحتفل في 20 ماي بالعيد الخامس والاربعون لانطلاق الكفاح المسلح
لهو أكبر برهان في ان الشعب الصحراوي نجح في أن يقف فوق ارضه المحررة اليوم بمؤسساتها وجيشها ويمد ذراعيه يمينا نحو الجزائر ويسارا نحو موريتانيا، ليعانقهما ويحتضنهما كشعبين شقيقين.
وهم يتمنوا جميعا ان ينضم الشعب المغربي، وان يتوب المخزن المغربي من ضلالاته وان لا يظل مخدرا الشعب المغربي الشقيق بالأكاذيب والألاعيب وان لا يبق مسلطا سوط العذاب والعزلة عليه، وان يسعى الى “مغرب الشعوب” لا الى المغرب التوسعي “المغرب الكبير” الذي يعشش في ذهن حزب الاستقلال المقال.
واليوم في ذكرى انطلاقة الكفاح المسلح 20 ماي 1973، يقف الشعب الصحراوي شامخا معززا في قارته الافريقية التي صارت الدولة الصحراوية بها، صمام الأمان الذي تتوحد عليه القارة ضد الابتزاز والتفرقة والتفكيك ومحاولة التقسيم التي يحاولها الغرب، وتتمسك القارة بالدولة الصحراوية كالإسمنت المسلح الذي يحفظها من امراض الفرقة ويجعلها قارة مؤسسات ومبادئ لا تشترى ولا تباع.
ان 20ماي تذكرنا أيضا بأول طلقة رصاص من بندقية شجاعة لشعبنا في العصر الحديث، اول زغردة للحرية، جادةً غير آبهة بما ينتظرها من مؤامرات وما أمامها من حواجز ومتاريس ومعوقات.
ان تلك الرصاصة وأولئك الثوار القلائل بالأمس، هم الآن جيش التحرير الشعبي الصحراوي وما إدراك ما ذلك الجيش الذي اثبت ان لا ملجأ للأعداء من الموت الا الاختباء وراء الاحزمة الدفاعية.
اننا في 20 ماي نترحم على الشهداء الذين حملوا بنادقهم وقالوا للموت تعال، تركوا الدنيا بحلوها ومرها وراء ظهورهم، واقسموا على تحرير الوطن أو الشهادة، ونحن على آثارهم البيضاء سائرون، حتى استكمال تحرير الأرض المغتصبة ومهما كلف الثمن، وعلى المتآمرين من العالم ان يبيدوا الشعب الصحراوي حتى آخر طفل، كي يستطيعوا ان يهنأ لهم حال، وستظل 20 ماي خيار الكفاح المسلح حين يعجز اهل السلام، وكما حصل في الكركرات قد يصير آخر رئيس صحراوي يوما شهيدا في الرباط كما كان اول رئيس شهيدا عند نواكشوط..

سقوفٌ ورفوفٌ...


من يستطيع أن يملأ جعبة الموت التي تلتهم ليل نهار وتبلع، إنها تختار بعناية العناصر المفيدة. اليوم اختارت معلم، أحمد الشيعة، الذي يتركب أسمه الشائع من “أحمد” أعظم رجل أنجبت حواء، وذيع الصيت “الشيعة” التي تمتع بها الراحل وهو يملك صوتاً بلا صراخ وبلا حدة، صوت هادئ كرذاذ المطر “أردانة” ذلك الغيث الذي يتسلل إلى عمق الأرض ويفيد دون أن يحتاج إلى البروق والرعود كي يملأ الحياض والسواقي.
لم أعِبْ على أستاذي شيئا سوى أنه كان قاسياً على رفاقه الذين ظل سنداً لهم، ثم سقط فجأة ليتساقطوا واحداً واحداً منهارين، يتزحلقون في دموعهم وصرخاتهم وأناتهم تفيض بها الصفحات وتتدفق من اجهزة الكومبيوتر والهواتف الذكية في خيانة كبرى لأسلوب الراحل في التعبير عن الانفعالات بالبسمة الأقوى من
العويل وبلع الألم الأصعب من تقيئه.
كان سنداً لهم لأن السند يعني القوة، إنه تطبيق مباشر لنظرية القوة
الناعمة، تلك التي لا نلمس مظاهرها إلا في ردود الأفعال، لنظل نتعلم من أستاذنا حتى بعد رحيله دروس الحياة أيضاً.
ونتعلم كيف يمكن أن نحصد الغلال في الوقت الضروري وهو بعد الرحيل. تلك الكلمات العميقة والادعية الصادقة هي كموجات الراديو القصيرة المركزة التي تصل في مداها ما لا تصله الموجات الطويلة. دعوات الرحمات والغفران الحارة الساخنة، فالسخونة تصعد أولاً إلى السماء وإلى البارئ تعالى تصل مبللة بالدموع وبغصّات الحلق وحرقة الفؤاد.
إنَّ الدرس الذي نتعلم أيضاً أن ما تقدم من شيء إلا وتجن ثمرته، فليس في هذه الدنيا شيء ذي قيمة كمحبةٍ صادقة، تلك التي تنشب دائماً بفتح القلب فهو الباب أو البئر الذي تجد فيه المياه النقية الصافية وأن تكون لله وله وحده شفّافةً نقيةً ظاهراً وباطناً. وفي الحديث “ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه” يُظِلّهم الله يوم لا ظل إلا ظله.
لم يكن الراحل إلا صحراوياً بسيطاً هو ومن معه من المعلمين السابقين، لكنهم أخلصوا النّية وانجزوا الواجب وكوّنوا جيلاً يستطيعون أن يفخروا به تحولوا من تجهيل المستعمر الإسباني إلى دكاترة وأساتذة ومهندسين واعلاميين ودبلوماسيين واطارات في كل مناحي الحياة، أصواتهم تزلزل العالم، جيل يعيش المستقبل
ويتجه بالدولة الصحراوية إلى دولة علم إن شاء الله.
تعلمنا أن الهوية الصحراوية يجب أن تتجذر وأن نثق في قدرات شعبنا وأن المستحيلَ سرابٌ ووهمٌ وأن الإرادة حقيقة كالأرض التي نقف عليها والشمس التي تدفئ وتضيء والقمر الذي يحرك المحيطات.
ليس بيننا نحن تلامذة الراحل إلا أن نفعل لا أن نقول، فسنسير بالأمانة وهي تحديث الدولة الصحراوية بالعلم، وبالعلم وحده سنواصل العمل على تكوين مجموعاتٍ في مختلف التخصصات العلميةِ، كي نستمر في تنظيم طاقات شعبنا وتوجيهها ونعاهدكم ونعاهد الشهداء أن لا نملّ ولا نكلّ.
إنّ تحديث أساليب النضال هي عبارة عن آفاق ومستويات تتراءى كسقوف وهو ما نصبوا إليه ونسعى إلى رفعها ولا نفكر أبداً أن تبقى مجرد رفوف.
إن الخروج عن روح الدولة الصحراوية وهو التنظيم المحكم بما يتلاءم وروح العصر يحتاج إلى وقفاتٍ ومراجعةٍ مع الذّات ويجب أن يتجه الجيل الحديث إلى الدراسات العلمية المكتوبة، لا إلى الكلام وتضييع الوقت وإلى العمل ثم العمل كي تنتقل الدولة الصحراوية إلى المرحلة الجديدة.
إن الجيل المؤسس عمل ما عليه وأكثر وما زلنا ننهل من فكرهِ وتجاربه ولكن الجيل الجديد الذي تعلّم سينقل الشعب الصحراوي كما فعل الجيل السابق حيث قفز بشعبنا من الجهل إلى تثبيت الهوية وتحديثها.
فبالإرادة والعمل سننقلها نحن إلى دولةٍ تواكب العصر وسيرى مِنّا العدو ما لم يره من الأجيال السابقة إن شاء الله.
نَمْ أيها الأستاذ قرير العين والرحمة والغفران لكل الشهداء


مجلة النجم

  مجلة النجم