يحررها حمدي حمودي

يحررها حمدي حمودي

الخميس، 3 سبتمبر 2015

رواية/ نبضات من الصحراء الغربية...





رواية/ نبضات من الصحراء الغربية...



النبضات....

كيف يمكن ان ابدأ في تلاوة هذه النبضات , التي آن لها ان ترتل, كيف يمكن ان يبلغ بي الغرور ان اكتب نثرا لما لا يصح الا للغة الشعر... الحرف هنا لغم , يجب ان تعرف كيف تدسه, و الكلمة حمامة بادية , حساسة طيارة , و الوصف اشبه بسقوطك في اعماق نفسك و عقلك كصياد اللؤلؤ والكنوز , تغطس ويبقى التوفيق للخالق!!!



لست ادري كيف املك الثقة في النفس في ان اصف و انقل حقائق لو لم اكن عشتها , لاقسمت انها اساطير و اباطيل و مبالغات !!!



و اخوف ما اخافه ان اورط نفسي فيما لست له اهل , و كيف اكون اهلا لسيرة عبدت بالآلام و المعاناة و رصفت بالجراح النازفة بالدماء الزكيات ؟؟؟



ايمكن ان يصدقني احد , حينما احكي عن جيش من المقاتلين , او قل المجاهدين من المتطوعين...! , من المتورطين في امتهان التضحية , من المتهمين بأنهم يضعون ارواحهم على اكفهم فداء للحرية و الاستقلال , بلا رواتب و بلا نياشين!!!



ان اغلب الذين يكتبون , او يدوّنون , انما يقرضون من الابطال بطولاتهم و مآثرهم , ثم يردونها اليهم , لذلك يُتّهمون بالمبالغة , لان البضاعة قد صبت في قالب جديد , غير الذي كانت فيه...و عجز هؤلاء عن احضار اللّحظة , يجعلها تنتقل من الواقع الى الخيال , الذي يكون فيه تأثير شخصية الكاتب مهمة جدا في الحكم على اي منتج فكري !!!



ان الفؤاد ينقبض حينما اتذكر المقاتل عبد الله , و لعل آخر لقاء كان بيننا عندما لمحته من بعيد , فشلت غمامة السوق و غبار السّيارات ان تخفي عني ملامحه و هيئته المنتصبة , بقده الذي اقرب للقصر منه الى الطّول , واقفاً وحده تلازمه كظله حزم من امتعة الظَّهر الشبه العسكرية المغبرة , كأنّه وافد من جزر بعيدة , مشتت النّظرات , ينظر في المارة التي لم يعرف منها احدا , و ان كانت تشبهه في كل شيئ , الا الملامح التي خطتها يد القدر.



ينتظر سيارة اجرة او احد المعارف, الانتظار الملعون !!! الذي انطوت له



و انثنت قسمات الوجه , دون ان يعنيه في شيئ صبرها على وضعها المرفوض , او يرق للوجه الكاسف , الذي يفضح على وجنتيه المرارة و الاستياء .



ذلك الانتظار العنيد الذي لا ينتهي قريبا بقدومه لخيمته في مخيمات اللجوء...



بل يصر على البقاء حائلا , دون الوصول الى بيته في وطنه , كالشّبح و كالجنّ , يمنع الخوف من تجاوزه قلّة الايمان و ضعف العقيدة , و ان كان يقينا ليس الا وهما و خيالا , متجاوزا لا محالة الى الحقيقة الصارخة بامواج صوت اصبحت اقوى من تسمعه الآذان المصابة بثقل السمع ...



تركت عبد الله عند خيمته و هو يستقبل من نساء , خرجن في ادب جم و هدوء و استحياء , لكن البشاشة و الهشاشة التي بدت على وجوههن , تقطع بنارها دائما قيد العرف الاجتماعي , الذي لا يزال يمارس عادة الوأد , لمثل هذه اللحظات العاطفية الجيّاشة , العابرة كالبرق في حساب الزمن , المعمرة نقشا في ثنايا الذاكرة و الوجدان...!

الشهداء...

لن اترك عبدالله هنالك , بل ساصطحبه معي في سفر الى الماضي و الذكريات الى هنا في جبهات القتال... حيث الخط الذي يختبئ وراءه العدو , تراه العين من بعيد يتلوى و ينتحر على رؤوس الهضاب و السفوح و الاودية كأثر افعى , خطا رقيقا غريبا , كأن الارض تقيأت صديدا و كأن جرحها ينزف ... كنت مع عبد الله نستطلع عن قرب بالمنظار المكبر قواعد العدو العسكرية و نرصد اي حركة غريبة...



ثم بدأنا ننزل من مكان الاستطلاع , المعد باتقان ... بعد سنوات من التجارب و الخبرات المتراكمة لهؤلاء الرّجال الاذكياء التي يقدمونها بسخاء و كرم للوافد الجديد , تلك الممارسة و ذلك الطّبع المتأصل في الّنفس الصّحراوية , الذي لم يكن الا امتدادا طبيعيا لما يحيط به , و ابرز المظاهر شجرة الطلح , التي تقدم ظلها و دفأها و صمغها و ورقها و خروبها و جذورها و حتى بعد موتها تهدي رفاتها حطبا مفيدا للحرق قربانا لطقوس الكرم هذه.



نزلنا الى الشجرة الكبيرة الكريمة , شجرة الطلح التي تلتحف بورقها الدائم الاخضرار , مثلها مثل لباس اي امرأة صحراوية , و التي هيئت لتكون بيتا للمنام , بيتا للطعام ,لاحاديث البطولة و تخطيط الهجمات ,,, و لا تزال بقايا اشياء شهداء رحلوا ,,, تحتفظ بها هذه الشجرة و تورثها من شهيد لآخر , لا تمل الافواه من تكرار مناقب اولئك الشهداء و كأنهم باقون بينهم , لم يصدقوا بعد برحيلهم ,



كيف ينسون من قضوا معهم عمرهم و صادقوهم و تعاهدوا على تحرير الوطن ....,عهدا بينهم لا يحتاج الى كلام , تسطره وقائع الفداء و التضحية , كل يفدي الآخر بروحه , و كم استشهد اصدقاء جملة من اجل ان ينتشلوا جثة صديقهم ...! او يستنقذوا جريحهم....!, كيف ينسوا من كانوا مدفن اسرارهم و موطن ثقتهم ...؟؟



اولئك الصحبة الذين يتمنوا من فرط حبهم لرفاقهم , ان لو رحلوا معهم و لم يُخَــلَّفوا وراءهم يوما واحدا........ ,



و كم وُجِدوا هائمين , قد اسودت الدنيا في اعينهم بعد فراق احبتهم في ساحات الشرف و معارك الكرامة ...!



و سيتحول تلقائيا عبء أسر الشهداء الى اخوانهم الباقين , امانة و عهدا و وفاءً ...!



يزورون اسر الشهداء لمواساتها و هم في الحقيقة احوج للمواساة , يزورونها الآن وهم ليسوا معهم...!!!



و يصيروا هم ظلال اولئك الآباء و الابناء و الاخوة الشهداء , منهم تفوح رائحتهم , و في وجوههم تتراءى صورهم و طباعهم و اخلاقهم.....؟!!!



تحت هذه الشجرة الوارفة تتقد القلوب و يتطاير الشرر من العيون و يكون للرغبة الجامحة للموت في سبيل الوطن معناً و مدلولا...تعجز عن وصفه الكلمات!!!



تحت هذه الشجرة كل هؤلاء الرجال يتحملون الامانة في ارجاع أسر الشهداء الى الوطن بكرامة و عزة , هؤلاء الرجال ليسوا مقاتلين و حسب بل شهداء ينتظرون شهادة الوفاة...!!!



هنا يكمن سر الصمود , هنا تكمن اسرار البطولة و الشجاعة , هنا يقبر الخوف حين تهون الحياة في سبيل الموت...!!!



هنا تحت هذه الشجرة و في كل تمركزات للثّوار , تتحول الرّتب الى حِمل و يصير البحث عن الماديات خيانة و عار و غدر ...



مع هذه العزائم الصلبة و التضحيات الجسام , تختفي لغة الارقام و تشل التحاليل و تفسد الخطط و يكون النّصر اسطورة تتكرر و تتجدد مع استمرار الحرب...!!!



لا يمكن لانسان ان يفهم معنى ان يهزم جيش لا يزيد تعداده عن 20 الف مقاتل متطوع كأكبر تقدير , جيشا جرارا تعداده 250000 جندي كلاسيكي , و يتركونه يختبئ وراء جدران الذلّ و العار ,,,



لن يفهم ذلك احد لم يعش بين هؤلاء الابطال ,,,



الذين يفترشون الارض و يلتحفون السماء...



ربما ان القارئ الذي يتتبع بعقله و جوارحه حينما نبدأ الكلام عن الشهداء و الانتصار , يظن ان نهر تدفق الكلام بدأ يصل نهايته , و لكن الحقيقة اننا انما كنّا نحاول وضع قدم القارئ على خط الانطلاق في رحلة سباق مع المراحل المتسارعة المتلاحقة لتلك الملاحم التي نحاول تتبع فصولها!!!



ولا يمكن بأي حال من الاحوال لاي منصف ان ينقل حكاية الانسان الصحراوي باحترام و امانة دون ان يكون في جو تلك الشحنات المتفجرة من العاطفة الجياشة و ذلك النَّقاء في الخُلُق و الصَّفاء في السريرة...



















تحريك الاسباب...







في جَوٍ الصدق فيه لا يزال يلبس رداءه الابيض الذي لا يتقبل الدّنس...

و الوفاء يعني ان تقطع اربا اربا دون ان تحيد عن كلمتك أو تتنصل عن قناعتك ...

و الشجاعة و البطولة شأن داخلي يخصك وحدك تعي ان معناه ان تلحق بالعدو اقصى ضرر تستطيعه...

زمن لا تزال القيم الانسانية العظيمة عند الانسان الصحراوي مصونة نقية لها لونها الاصلي و رائحتها الزكية و طعمها الحقيقي...

في وقت لا تزال الرّجولة معناها حمل السّلاح و تولي المعاناة و ركوب الصعاب و امتطاء المحن و المآسي...

معناها ببساطة ... العصيان و الكفر بالمستحيل ...!

فيه الرجل رجالا ... و المرأة رجلا ... و الطفل فتى...و الشيخ شابا ...كل اجتاز حدود قدراته و لا غنى عن دوره و مسؤولياته الجسام ...

في ذلك الطقس الذي تلبدت فيه الغيوم و اسودت , و قصفت فيه الرّعود و عربدت و ضربت فيه البروق و اشتدت...

في ذلك الجو الصاخب , فيه ضجة المشاعر في الصدور!!! , تطغي على اصوات ولولة الرصاص و قصف الطائرات ....

و كلّما زادت حدة الظّلم و ضاقت الظّروف ... ارتفع سقف التّحدّي و اتسعت في القلوب مساحات الاصرار....

في معنويات صلبة و اعصاب فولاذية قل نظيرها و ندر مثيلها!!!

في الستينات , سنوات القحط المتواصلة انقطع القطر و جفت جذور الشجر , و لم تعد الاشجار صالحة الا كحطب , هبوب العواصف الهوجاء الجافة , وفرت الحراك بين الجذوع اليابسة و اصبح اشتعال النار قضية وقت , كانت الشرارة... قدر مقدّر !!!

هل يستطيع احد ان يقول اليوم انه حرك القدر ؟

بقايا الابل التي نجت من الابادة التي قامت بها القوات الفرنسية و الاسبانية بعد عمليات اكفيون . حيث قضي على 75 في المئة من الثروة الحيوانية . بقايا تلك الابل لم تعد تجد ما تقتات عليه , ها هي تساق الى المدن مثلها مثل مالكيها و حول تلك اشباه المدن تتشكل احزمة من الخيم السوداء من الفقر و الفاقة و المرض , احزمة من الغرباء ...

قطعان الابل التي كانت تهيم في الصحراء لاهية , ها هي تحبس في زرائب , لتقدم لها اكياس من الدقيق او حفنات من القمح المستورد , تعرف انها تنتظر الذبح , المصير لم يعد مجهولا ...يرى الحيوان ما لا يراه الانسان , كانت بداية الاقتراب من المستعمر و لكن السكان الاصليون اليوم هم الغرباء ...

و كأن الله جمع السكان ليستلموا ارضهم .

بدأ الكثير منهم ينحرط في القوات الغازية ليتعلموا استعمال الاسلحة الجديدة , و بدأ آخرون يتعلمون سياقة السيارات و العمل في المصانع و كأنهم يهيؤون ليعرفوا العالم المحيط بهم حيث بدأ الكثير منهم يرسل ليتعلم في المعاهد و الجامعات الاجنبية ...

لم يكن الصحراويون نازحين الا مؤقتا بسبب الجفاف و قلة الحيلة... و ظلت روح الرفض للمستعمر ثقافة و طباعا و دينا مترسخة لم تخبُ يوما ... كانت جمرا مشتعلا و ان غطاها رقيق طبقة الرماد...

زادها وعيهم بالاستغلال الجشع للثروات من فوسفات و سواحل غنية بالثروات السمكية و التي لم ينعكس ريعها على حياة المواطنين , القليلوا العدد و غذتها الفروق الشاسعة و الجفاء بين النظام الاستعماري الاوروبي مع الحياة العربية الاسلامية و حركات التحرر المجاورة ...

كان الاسبان اغبياء ... قليلوا الايمان لم يفكروا ان قطع الارزاق لا يمكن الا بعد الموت ... ارادة الله لا يمكن معاندتها ...

لا يفصل عن استجابة الدعاء الا ستارا رقيقا يسمى الاسباب ...

نعود الى عبد الله , حيث كان يتحضر للذهاب في مهمة كانت تلك هي الاوامر زمن الحرب , لا يقال لك اين انت ذاهب و لا يحق لك السؤال ...

المقاتل في جبهات القتال بعد ثلاثة اشهر يحق له الاستراحة لمدة خمسة عشر يوما , حيث عادة ما يذهب الى المخيمات في اطار مجموعة من كل كتيبة افرادا , يراعى في ذلك الظروف و الاحتياجات , حتى يبقى غيابه لا يؤثر على العمل القتالي ...

لكن عبد الله كان استدعاءه الى "مهمة خاصة" و هو امر مستعجل , ودّع الجميع , هاهي السيارة التي ستقله , تنتظر و لم يطفئ السائق المحرك حتى!!!

السيارة من وزارة الدفاع مباشرة العلامة في خلفية اللوحة تفضح قليلا من السر ؟؟

بالاحضان و الدّعاء ودّع الجميع عبد الله الذي وضع حزمة اغطيته المربوطة باتقان و حقيبته في مؤخرة السيارة و قفز برشاقة الى الامام , اغلق باب السيارة المكشوفة ككل سيارات الجيش الصحراوي "ادريميزة" و انطلقت السيارة , التي ظل صوتها يبتعد شيئا فشيئا , و كلما ابتعد الصوت و زاد رقم المسافة , و زادت اعداد علامات الاستفهام حول مهمة قد يبدو انها من وزارة الدفاع ؟؟؟

شخصية المقاتل...

ها هو المقاتل عبد الله و جها لوجه مع وزير الدفاع مباشرة , كان لقاءا حميميا دلّ عليه السّلام الطويل , و لكنه من ناحية المعلومات شحيحا , مقتضبا , ظلت ملامح الوزير تبدي اعجابا و تساؤلا غريبا ! , لم تستطع الصرامة المصطنعة و الصمت المتأمل الهادئ الذي يجيد الصحراويون تقفي اثره اكثر من الكلام نفسه , و لا الجدية من اخفاء تلك النظرة الفاحصة التي يختلسها الوزير الى وجه عبد الله بين الفينة و الاخرى ؟؟؟,



الانسان الصحراوي الذي وهبته البداوة برحابتها و الصحراء بشساعتها و هدوئها و الاختلاء بالنفس لمساءلتها و محاورتها و امتحانها , عبر تراكمات من السنوات الطّوال , ملكة "حدة الحواس" , حيث كاد ان يسمع دبيب النّمل , و كاد ان يرى بقوة بصر الابل , و يحس بابسط تبدل للمحيط و الاشياء حتى و ان لم يرها او يسمعها و تلك الذاكرة التي تخزن الشعر و الكلام و المواقف بتفاصيلها من اول سماع و اول رؤية و تلك الاستجابة للعقل السريعة في التحليل و التمحيص , تلك القدرات تخلت عنه كلها , خانته قدرة السمع الفائقة عن التقاط كلمة من هنا او هناك , او ان يرى ما يدله على اشارة لهذه المهمة...خانته و تخلت عنه تلك الملكات العجيبة المميزة التي لا زال يمتلك منها عبد الله الكثير , و التي زادتها تجربة الحرب الدروس بقساوتها و مفاجآتها و خدعها و مكرها و صبرها , و لم يشفع له اتقانه قراءة تفاصيل ما بين الكلمات و المعاني في تلك اللهجة "الحسانية" التي يتقنها جيدا ...

كانت الرسالة التي سيذهب بها الى الرئاسة بين يدي الوزير جاهزة , لكن قبل ان يسلمه الرسالة , اتصل الوزير بشخص , امرا :

ان تعالى بسرعة...

اعتن بهذا المقاتل , في المساء يكون هنا , رسالته جاهزة ...

انطلق عيد الله مع صاحبه الجديد , الى الاستقبال , و ارشده الى الحمام للاستحمام , قدم له منشفة و رزمة من ادوات النظافة , و زوجين من كل الملابس العسكرية الجديدة و لثامين جديدين , و حذاءين عسكريين و نعال و بعض الاغراض من هذا القبيل و قال له اعتن بنفسك , انا هنا في انتظارك , دخل عبد الله المنهك من هذه المفاجأة و ليس قطعا من السفر فهو معتاد على الاسفار , لم ينزل يوما عن سيارته ... التي كانت اولى السيارات التي تقدمها ليبيا الى الجيش الصحراوي...

لا تزال جديدة في هيكلها و محركها و ذلك للعناية الدائمة التي يوليها , لها عبد الله حتى ان عجلتها الاحتياطية لا تزال لم تستعمل بعد في غطائها الذي صنعه لها هو بنفسه...

كنت واقفا اتأمل تلك السيارة عن بعد , حيث ان و ضيعية ركنها كانت تنم عن خبرة , من ناحية الاتجاه و سهولة الحركة في حالة المفاجأة , و القرب من الشجرة لحمايتها من اشعة الشمس و هبوب الرياح و من اتجاه السلاح الذي كان يرفع شارة النصر , كانت اكياس الذخيرة موضوعة بالقرب في اسهل وضعية للاستعمال و التحميل , التفاصيل داخل السيارة تنم على نظافة , و ترتيب عجيبين و تنم عن نوعية شخصية المقاتل الصحراوي النّوعي , الذي يهتم بأدق التفاصيل و يتعامل مع الاشياء كاملاكه الخاصة...

كنّا نترقب صلاة المغرب كالعادة للقيام بالعمل العسكري الروتيني ككل ليلة...

فحينما تأوي الطيور الى اعشاشها , و يطير آخر عصفور ماكر الى وكره الحقيقي الذي كان يداري عنه بعيدا , و يصَفِّر العصفور الزّقّاق , صفارته الاخيرة معلنا طيّ صفحة النّهار , بعدما اتم قراءة تفاصيل معركة البقاء بين العدوين الليل و النّهار في صفحة السّماء و عندما تبدأ يد الليل تمرر بريشتها لونها الاسود الــثّقيل القاتم كــدخان اسود , عندها ينسحب آخر فرسان النهار البيض المثخن بالجراح ملطخا صفحة المساء بالوان حمراء غبراء كلوحة طبيعة زيتية.

كنّا نتأمل تلك المعركة من حروب الخير و الشر المتواصلة ... و ان خيم الليل , فاننا كنا على يقين ان النّهار سيأتي لا محالة و ان ذلك الفارس الشّهم سيتعافى و لا يلبث ان يعود ليهزم فلول الظلام...

سنّة الحياة ... سيغلب الخير و سينتصر مزيلا اثار الليل البهيم...

بعد قليل سوف نضيئ نحن ايضا سماء تلك التلال اين يختبئ العدو , بوابل من القذائف و كبب اللّهب , و ستكون سيارة التويوتا التي تحمل على ظهرها الرشاش 14,5 ملم التي يتقن المقاتل الصحراوي الرماية به ... يستعمله كسلاح فردي كبندقية "كلاش انكوف " تماما.... يقتل به الافراد و ان كان اعد تصميمه للحماية الجوية و تحطيم الدروع المتوسطة التدريع.

الشاي الصحراوي...

الليل و الشتاء في مخيمات اللجوء , كجناحي طائر يحلقان بك , لهما طعم خاص و مميز , ها هو عبد الله يجلس في سعادة لم يحس بها في العمر من قبل , و هو يعد الشاي , كانما يجلس فوق ربوة او فوق جبل , احساس بالعلو و الارتفاع و التحليق , كان كأنّما يتلمس شيئا جميلا داخله , لا يراه رأي العين , غير انه يحسه قريبا من شغاف القلب , عميقا في الداخل البهيج , يفجر في داخله احاسيس مختلطة , عذبة من الاشعاع الروحي , صوت الشاي المتنقل بين الكؤوس في تدفقه العفوي , المنتظم , كالنقر على زر بيانو , يصدر صوت شلال ,

لمذا لم يختر الصحراويون للكؤوس الا لوناً شفافاً مثل نياتهم و صفاء قلوبهم ؟ ِلمَ ثبتوا مع نفس نوع الكؤوس عبر تعاقب السنين؟؟ لم ذلك العهد رغم الاغراءات و تطور صناعة الزجاج بكل هذه الاشكال و الالوان؟؟ لمذا بقوا ثابتين عليه مثل عهودهم مع ما يميزهم؟؟ ربما قيمة الاختلاف عن الغير , و حب البقاء في حضن العادات و الاعراف الحكيمة , و كأنه احتضان و شوق و توق للقديم البهيج المغبط , و يقول المثل الحساني " العادة كالشرع "

لمذا اختيار الكؤوس المتساوية , كاسنان المشط , ربما الرمز لحب للمساواة ضف الى ذلك ان الجميع في حضن و العدل و العهد و البساطة ,,قيم تجسدت عن قصد و عن غيره ,,,في كؤوس الشاي هذه ,,,

اسئلة كان يفكر فيها و هو يتفرس في تأمل , الرغوة التي تستقر في جمال فوق الشاي , و كيف يمكن ان يجد تفسيرا للبياض الذي يطفو فوق الشاي , كان يبتسم وحده حين فكر ان انتاج الرغوة النقية , لا يمكن من شاي شابه شيئ آخر, كان يفكر في الطباع و العادات الدخيلة, عندما قطع عليه سيل افكاره التأملية صوت الشاي الذي فار في البرّاد,,,

الشاي ذلك المشروب الساخن الذي يشربه الصحراوي , و هو في ساحة الوغى

و في اصفى اوقات الاسترخاء,, ان تقديم الشاي و حتى طريقة التقديم نفسها لها تعبير ان الشخص مهم او غير مهم ....الخ ,, هذا المشروب يتغلغل الى كل شيئ في حياة الصحراويين,,,الى ابعد الحدود.

جهز عبد الله الشاي و قدم كأسين , كان احدهما للزوجة و الآخر لضيفة غالية أخرى , كان الاستدعاء للمقاتل عبد الله من اجلها هي بالذات و بامر منها لرئاسة الدولة...!يجلس عبد الله في بيته يعد لهما الشاي تاركا سلاحه , في الانتظاره في المركز الخلفي و سيارته في الخطوط الامامية لجبهة القتال.

رفيق العمر...

كانت هذه المرأة الضيفة العجيبة , تذكره بصديقه احمد , تلك الصداقة تلك المميزات العظيمة التي كادت ان تكون في زمننا هذا اشبه , بالخيال او الاساطير ,,,

حبّ الرّفاق , الحبّ الصّافي الذي يدوم مادمت حيا و يدفن معك , تلك الزوارق التي ترسو لنفس الشاطئ و تفرغ حمولة النفوس لبعضها بامان , ثم تنطلق , كل الى بحره و محيطه , خفيفة نشطة ,,,

كان ل عبد الله صديق لصيق , لا يريان الا كعصفرين, يتنقلان بين منازل الاهل و الاحباب , لا يفترقان ابدا , الا عندما يسافر صديقه الى جزر الكناري للعمل , عندها يغادر عبد الله الى البادية ,,,

غير ان آخر مرة لم يستطع صديقه القدوم , لمرض الم به , و انقطع الاتصال , فثقل الحال على عبد الله و قرر ان يرحل لعيادته في الجزر,,,

كانت السفينة تمخر به عباب البحر , و سفينة اخرى تسبقها تجري في خاطر عبد الله

ما به صديقه ,,,؟.

و اي مرض حل به؟

و كيف هو حاله الآن؟

و ترى كيف ساجده و كيف سيقابلني ,,,؟؟

لم يستطع النوم تلك الليلة ,,, و كان عليه ان يغير الحافلة مرتين الى البيت الذي يسكنه صديقه احمد,,,

مرافقه الذي كان معه اعتذر عن النزول معه , لانه لا يستطيع ان ينزل لان الوقت تأخر , و لكن عبد الله طمأنه انه يحمل العنوان الذي كتبه له ... صديقه احمد يوما في رسالة من تلك المراسلات التي كانت تجري بينهما و التي كان يأتي عبد الله خصيصا من البادية في نهاية كل شهر ليأخدها من دار خاله في "الداخلة",,,

لن يمض الحال طويلا ب عبد الله في جزر الكناري فقد كان الوقت متأخرا جدا كان الصمت يلف البيت الذي دخله , اثنان من الرفقاء يشربان الشاي وحيدين , و لما فتح الباب سلما عليه بهدوء , و كان قد جاء مندفعا فرحا , غير انهما كانا شاردين قليلا و ادخلاه الى البيت , ،كأنما يدخلانه الى مأتم او الى قبر , كان يسأل هل يقيم احمد هنا انا عندي هذا العنوان , قالا نعم انه العنوان بالضبط و احمد , في هذا البيت و اشارا الى احد البيوت,

يستلقي احمد و حيدا في البيت هيكلا و جثة , ممددا , شبه نائم ,,,

احمد...! الذي كان يضج حيوية و نشاطا و نضارة ,ها هو كورقة خريف خفيفة اسقطتها اوهن النسائم,,, نحيلا نحيفا اصفر الوجه خدوده حادة و عيناه غائرتان فاقدتا اللمعان , و فمه يكاد لا يميز ...

كان بعض الذباب يدور في حلقات في وسط الغرفة و رائحة النوم و قلة التهوية تصيبك بالغثيان ,,, اغطية تبدو كانها لم تبدل منذ مدة ليست بالقصيرة ,,,

فاضت عينا عبد الله بالدموع تدفقت و سالت ساخنة و حدها كالشلال , و صعدت كومة و شحنة من العواطف كانت اكبر من ان تخرج غص بها و علقت هناك في حلقه...

اقترب عبد الله من احمد الممدد ,,, التفت احمد الى الجلبة ببطئ شديد , و رأى عبد الله برقت عيناه قليلا ثم امتلاتا بالدموع ,,,, و لكنه لم يتحرك و لم يتكلم ,,,

اقترب عبد الله المفؤود من صديق عمره احمد, و ضمه الى صدره ضمة حارة ,,, و بدأ يسلم عليه و العينان تمطر ,,

اللسان و الثورة...

قدم عبد الله الشاي الى كليهما الزوجة و الضيفــة التي تمازح زوجته, ذات لكنة الجنوب الموريتاني, يضحك زوجته اسلوب الضيفة في الكلام , الذي يشبه حسب رأيها كلام جدتها ....

كان الاختلاف بينا في اللهجة الحسانية حسب مناطق تواجد البيظان،  ونتيجة تغير المستعمر زاد الاختلاف اضافة الى الجيران اين يكون التأثر واضحا خاصة في الجوار , الشمال الصحراوي مع الجنوب المغربي في قضية التأنيث و التذكير التي قضت عليه الثورة تقريبا و بشكل تلقائي بسبب الانصهارات بين اطياف المجتمع و كذا التأثر بالجنوب الجزائري و ان كان اقل حدة ناهيك عن التاثر بالسنغال و مالي بالنسبة لبيظان موريتانيا و مالي ,,,

اللهجة الحسانية البدائية تغيرت كثيرا في مخيمات اللجوء, تلك اللهجة جندت فيها كلمات كثيرة من اللغة العربية الفصحى الحديثة او الاسبانية او حتى الليبية و الجزائرية , و البست ازياء و قوالب جديدة,,,

قوة و حماس و اندفاعية الثورة الصحراوية خلقت عندها شخصيتها القوية , التي كانت لمساتها تطغى على كل شيئ , حتى طريقة الكلام و هدف الكلام و موضوع الاحاديث , التي يغلب عليها الانشغال و الهموم التي يعيشها الانسان الصحراوي , و اغلبية الكلمات المستعملة كانت تعبر عن المرحلة , الحرية و الاستقلال و الشعب و التنظيم , كانت من بين الكلمات الاكثر استعمالا و كلمات كالبيئة و المحيط ... و الخيمة قد تحولت الى كيطون,,,,و كلما تغيرت الحياة , تضاف كلمات جديدة تصبح مألوفة بسبب التكرار , رتبت الخيم بطريقة منظمة , فصارت كلمة مسؤول و فرد و مسؤولة الصف و مسؤولة الحي و مسؤولة الخلية و اللجنة و الرعاية الاجتماعية و لجنة الصحة و لجنة الهلال و لجنة النظافة و التربية و القضاء , التجمعات و الدراسة و المهرجان و المستوصف و المدارس 12 اكتوبر , 9 يونيو و 27 فبراير و الولايات و الدوائر و جبهات القتال و النواحي و التقسيم و الكوبة و البطاكة و الفرق الفنية و الذكريات و الاستقبالات و الثورة و الدول الذي يدرس فيها الطلبة كانت كوبا و ليبيا و الجزائر , كانت الحملة و الايجابيات و السلبيات و المناضلين و الشهداء و لمجاريح و كم هائل من المصطلحات الجديدة المتجددة , المؤتمرات الشعبية الاساسية و المؤتمر الشعبي العام و ... اما الحديث عن النظام الاجتماعي و اللجنة التنفيدية و المكتب السياسي و الدول المعترفة و سياسات تلك الدول و رؤساؤها و الكلام عن ما ستضيفه للشعب و هزائم العدو العسكرية و اكلاش و ادريميزة ,,,, ضف الدبلوماسية و العلاقات الخارجية التي كانت هي حديث الجميع ,,,

النساء يخرجن كل الى عملها في الصباح الباكر و لا يبقى في الخيم اي احد , الملابس الموحدة لكل مهنة و كل عمل ,و حتى الثوب العسكري و التدريب العسكري ...لم تر طفلا واحدا يتسكع و لا رجلا يتجول ,

كان الجرس الذي يدق كانما يبلع الناس بلعا ,,, الضيفة منبهرة و مصدومة امام هذا الامر كله لم تفهم شيئا مما يدور حولها مجتمع بعيد كل البعد عن المحيط الذي كانت تعيشه المطربة الموريتانية القادمة للغناء من اجل الثورة و الشعب الصحراوي , كانت تظن انها ستلقى مجتمعا تفهمه غير انها و جدت مجتمعا آخر...ثكنة عسكرية في طوارئ...

بكل بساطة لم تفهم كيف ان كل فرد من الشعب اصبح يحمل لوحده هم الحرية و الاستقلال ,,,

زيارة الى المؤسسات...

صعدا في الصباح سيارة لاندروفر الضيفة , هما والمقاتل عبد الله ...كانت البرنامج زيارة المؤسسات التعليمية ...

         صحراء "الحمادة" اقسى الصحاري او كما يقال "صحراء الصحاري" , كانت الوجهة و الطريق التي تتجه اليها السيارة لا تعرف الا من خلال خطوط رقيقة باهتة تخيلية في اغلبها  , لا يكاد يظهر منها القليل الا ليختفي منها الكثير بين الفينة والأخرى و كأن السيارة الرباعية الدفع ليست الا سفينة تسير فوق موج بحر تتشابه كل موجاته ,  بوصلة الاتجاه   ملكة الانسان و حدسه و خبرته و نباهته , مطبات الطريق من حفر و نتوءات تخيل انك تمشي على ظهر سلحفاة او فوق ذيل تمساح ,,,

       الدهشة و المفاجأة تكسب وجه المرأة الضيفة الجدية والحيرة المتواصلة ,مع غبطة ملازمة لمحياها و كأنما تحقق حلما ,اشراقة تحقيقه تلمع بها العينين , وتكسي وتستعمر ملامح  الوجه النضر , ومسرة مكبوتة  تلازمها ,لا يمكن وصفها الا كأنها طفل في ارجوحة لعب الأطفال الكبرى تجربها لأول مرة مليئة بالمفاجآت , لأن من معها كانت تعرف في قرارة نفسها ,انه مقاتل صحراوي , كانت الشهامة و النبل و العفة و الإباء و الترفع عن الدنايا ,  لباس  طباعهم  وحركتهم  وسكونهم , يحرس عبد الله ان ينتقى الكلام من قاموسه الحساني الغني الباذخ بأطايب العبارات التي تشرح الصدر وتغبط الفؤاد , وتنعش الروح , ودعابته البدوية التلقائية الارتجالية والمصبوغة الآن بغبار الثورة وريحها وضجيجها و حماسها , السيارة و الرحلة بالنسبة له مهمة يجب ان تنجح بامتياز , كمهمة القتال تماما.

أطفال المدارس...

الطفل الذي يجلس في الصف الخلفي، لا تزال آثار كريمة “الشمع “التقليدية التي يخبئ قارورتها الصغيرة تحت وسادة السرير في غرفة نومه الجماعية التي يتقاسمها مع رفاقه الذين سيقضون معه من العمر ما لن يقضيه مع إخوته وأهله  في يديه لم تقض كليا على تشققات البرد الخشنة عند المفاصل الصغيرة  ,كانت الضيفة تشاهد تلك الآثار في ظهر يده  التي تتزاحم مع الأيدي المرفوعة من التلاميذ النجباء الذين يلبسون نفس الزي  والتي تتنافس  للحصول على اذن المعلم الذي يرتدي هو الآخر ثوبا عسكريا كمثل كل المقاتلين انها مهمة نضالية ليس الا وإن كان العدو هو الجهل الأكثر فتكا وغبار الطبشورة هو غبار معركة أخرى لا بد من خوضها ,اللوحات على جدران الفصل وفي رزنامات البرنامج اليومي والشهري والسنوي المعد بألوان باليد والمسطرة ينم عن دبيب عمل دقيق وجدية وروح مثابرة من المدرسة الصحراوية الثورية ,صور

الشهداء وخريطة الوطن وآيات القرآن الكريم تحدد بوضوح رسالة المدرسة وأهدافها كانت الضيفة منبهرة بالحماس المنضبط وبهؤلاء الصبية الذين بلا أدنا شك سيكونون خير خلف  لخير سلف...

وبلغة عربية فصيحة كان جواب البنت النجيبة القصيرة القامة في مقدمة الصف قد حسم الامر، حيث كان موضوع الدرس عن الجغرافيا وموقع الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية... ضيفتنا على يقين بأن ذلك الموقع يقع في قلب كل طفل من هذا الجيل الذي ستكون له الكلمة الفصل في رسم خريطة الصحراء الغربية بألوان جديدة وحدود موثقة بحبر العلم واليقين والقناعة...

لم تكن المدرسة الا ككل المدارس الداخلية حيث في الوسط يقع مستوصف تدور به المرافق العادية المبنية بالطين العادي والمصبوغة باللون الابيض او الاحمر الطيني ,عند المدخل الرئيس للمدرسة شيد المدخل من قوس كبير يرتكز على عمودين وعند الدخول مباشرة على اليسار يقابلك باب المديرية اين يكون المدير والطاقم الذي يدير المدرسة في يساره يقع اكبر المباني وهو المطعم المدرسي حيث بنيت صالة كبرى ومدت داخلها طاولات في صفوف افقية وكراسي جماعية خشبية الكل غير مصبوغ ويبدو قديما غير ان الاطفال الصغار التي تجلس على الكراسي بعد ان تدخل في نظام لن يكون














ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مجلة النجم

  مجلة النجم